الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة **
ولقد ظن كثير من الناس أن هذا العلم الباطني كان نتيجة للصلاح والتقوى، والمداومة على التسبيح والذكر، فداوم على هذا وسار في طريقهم زمانًا عله يظفر بما يظفرون به، ولكنه لم يصل إلى شيء، من هؤلاء من يحدثنا عنه أبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء يقول (ج4 ص358): "حكي أن شاهدًا عظيم القدر من أعيان أهل (بسطام) كان لا يفارق مجلس أبي يزيد البسطامي فقال يومًا: أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر ولا أفطر، وأقوم ولا أنام، ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئًا، وأنا أصدق به وأحبه! فقال أبو يزيد: ولو صمت ثلاثمائة سنة، وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة!! قال: ولم؟ قال: لأنك محجوب بنفسك. قال: فلهذا دواء؟ قال: نعم. قال: قل لي حتى أعمله. قال: لا تقبله. قال: فاذكره لي حتى أعمل. قال: اذهب إلى المزين فاحلق رأسك ولحيتك، وانزع هذا اللباس، واتزر بعباءة، وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزًا، واجمع الصبيان حولك، وقل.. كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة، وادخل السوق، وطف الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك، وأنت على ذلك!! فقال الرجل: سبحان الله، تقول لي مثل هذا؟ فقال أبو يزيد: قولك.. "سبحان الله" شرك!! قال: وكيف؟ قال: لأنك عظمت نفسك، فسبحتها، وما سبحت ربك. فقال: هذا لا أفعله، ولكن دلني على غيره. فقال ابتدئ بهذا قبل كل شيء. فقال: لا أطيقه. فقال: قد قلت لك.. إنك لا تقبل..!." والعجيب أن أبا حامد الغزالي يعقب على هذه القصة بقوله: فهذا الذي ذكره أبو يزيد هو جزاء من اعتل بنظره إلى نفسه. فهذا الرجل الصالح الذي صام دهره وأقام ليله، يرجو الوصول إلى علوم القوم، وما جاءه خاطر، ولا مرّ به هاتف، تعجب من هذا وشكا إلى أبي يزيد، فقال له: لن تصل إلى شيء لأنك محجوب بنفسك. ومعنى ذلك أنه يرى أنه القائم بالعبادة فيرى نفسه عابدًا لله، وعقيدة الصوفية تعتقد أن الله قد أقامك فيها، وأنه اختارها لك، وتلك إرادته، ولا إرادة لك معه، وبالمقابل لا بد أن تعتقد أن الله قد أقام العصاة في معاصيهم، والكفرة في كفرهم، وإبليس في إغوائه (كما مرّ بنا في كلام الحلاج)، وكذلك أيضًا قال أبو يزيد لذلك الرجل عندما قال: سبحان الله: سبحان الله شرك. ثم قال له: كيف؟ قال: لأنك نزهت نفسك عن فعل السوء، ولم تنزه الله الذي يفعل السوء ويريده، ويقيم الناس فيه، فقد عظم الرجل نفسه في عقيدة أبي يزيد وطائفته عندما امتنع عن عمل يقوم الله به ويريده ويحبه!! ولهذا أمر أبو يزيد البسطامي ذلك الرجل ليصل إلى هذه الحقيقة الصوفية أن يفعل بنفسه ذلك الفعل المرعب، وبهذه الوسيلة التي تعتبر مجاهدة في عرف التصوف سيتحقق يقينًا بهذا العلم الباطني، وهو أن الكون على هذا النحو مراد لله سبحانه، ولذلك قالوا: "أقام العباد فيما أراد"!! ولا شك أن الخطأ في فهم قضية القضاء والقدر قد جرت البلايا والفتن على كثير من الناس، والعياذ بالله، والسبب في ذلك أنهم لم يستطيعوا أن يفرقوا بين علم الله الأزلي سبحانه وتعالى، وما سطره من مقادير الكون وفق هذا العلم، وأنه سبحانه يعلم ما سيكون كيف يكون، وبين الاختيار والمشيئة للعبد التي جعلها الرب ـ تبارك وتعالى ـ أساسًا ومناطًا للتكليف والحساب. فللعبد مشيئة خاصة يوقع بها الفعل الذي يريده، ولكنه لا يوقعه جبرًا على الله ورغمًا عنه "وسيأتي لقضية القضاء والقدر رسالة مستقلة إن شاء الله أرجو عون الله في إتمامها". فالطاعة بتوفيقه وهدايته، والمعصية بإذنه سبحانه ومشيئته، إذ لا يقع في ملكه إلا ما شاء، وهو سبحانه وتعالى القادر على منع الكافر من الكفر، والفاجر من الفجور، ولكنه الابتلاء والاختيار والتكليف: وقال ـ عز وجل ـ: فهؤلاء لم يفهموا هذه العقيدة الشرعية التي بينها الله في كتابه أتم البيان، وشرحها رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غاية الشرح. ظنوا ـ وخابت ظنونهم ـ أن الشر والمعاصي والفجور مرادة الله ـ تبارك وتعالى ـ إرادة حب وقبول ورضى، فقالوا ما قالوا، ولم يعلموا أنها مرادة لله أن تقع في ملكه فقط، فليست تفعل من فاعليها رغمًا عن الله سبحانه وتعالى، وعجزًا عن دفعها ومنعها، وحاشاه ربنا سبحانه وتعالى عن ذلك، ولكنها إرادة وقوع، ومشيئة إذن وسماح، ووراء ذلك كله العقوبة لأهلها في الدنيا والآخرة، والمذمة واللعنة والطرد والإبعاد لأهلها، وحاشا الله أن ينسب هذا إليه [والشر ليس إليك] (هو جزء من حديث رواه مسلم في (صحيحه ـ6/57ـ59 بشرح النووي) وأبو داود (760) وأحمد وغيرهم، وأوله: أقول إن هؤلاء المتصوفة لما لم يفهموا هذه الحقيقة الشرعية، رأوا أن فعل الكفرة والفجرة موافق للرب في إرادته ومحبته، وكذلك قال الحلاج عن إبليس وفرعون: إنهما عرفا الحقيقة، وأنهما قائمان بأمر الله في ذلك، ولهذا ما سجد إبليس، وما آمن فرعون إلا بأنه هو الله، ولهذا أيضًا ما رجع هو عن قوله. والعجيب بعد هذا كله أن المتصوفة الذين جرهم سوء الفهم لقضية القضاء والقدر إلى هذه العقيدة الباطلة، والمعتقد السيء، زعموا أنهم وصلوا إلى هذا الفهم عن طريق الكشف والعلم اللدني والفيض الرحماني (العلم اللدني نسبة في زعمهم إلى قوله تعالى عن الخضر: وبعد أن قدس المتصوفة الأقدمون علمهم الباطن على هذا النحو، وأظهره بعضهم بذلك الوضوح، وجعلوا علم الشريعة المنزلة على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ علمًا خاصًا بالعوام، وجعلوا علمهم الباطني علمًا خاصًا بالخواص يتلقى رأسًا عن الله بطريق انكشاف حجاب الغفلة ـفي زعمهمـ لم يكتف المتأخرون منهم بهذا التقسيم، بل غالوا إلى أن جعلوا علوم الشريعة مرحلة فقط لعلمه الباطني، وجزموا بأن من وقف عند علم الشريعة، وتقيد بظاهره فقط فلا ينجو من الآخرة، بل هو غافل عن دين محمد، شأنه شأن الكافرين. يقول الشيخ عبدالغني النابلسي (وهو كما ترجم له صاحب "الأعلام" من كبار العلماء المتأخرين، له مصنفات كثيرة جدًا في علوم الشريعة والتصوف والأدب، ولد ونشأ في دمشق، وتوفي بها سنة 1143هـ يقول فيكتابه: "الفتح الرباني والفيض الرحماني ص133"): "فكل من اشتغل بالعلوم الظاهرة، ولم يعتقد أن وراء ما هو ساع في تعلمه من الفقه والحديث والتفسير حقائق وعلومًا باطنة، رمزها الشارع تحت ما أظهر من هذه الرسوم هي مقصودة له، لأنها المنجية عند الله تعالى، فهو غافل عن الله تعالى، جاهل بدين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ داخل تحت قوله تعالى: وقد ساغ في كلام الشيخ كما ترى أن يستدل بالآية السابقة على أن علوم الشريعة من الفقه والحديث والتفسير، العلم بها كالعلم بظاهر الحياة الدنيا. والغفلة بها عن العلم الباطني كالغفلة بعلوم الدنيا وزخرفها عن حقائق الآخرة!!. لقد كتب الشيخ عبدالغني النابلسي هذا الكلام في كتابه الفتح الرباني، وقد قال في مقدمته: إنه يكتب كتابه هذا مترجمًا عن الإلقاء الرحماني له مباشرة، وبغير وساطة، فهو وحي أو إلهام أو كشف حسب ما يدعيه، قال النابلسي في تعريف الذنب حسب العلم الباطني: "اعلم أن الذنب له حقيقة متى علمت علم سره، ومتى علم سره علم جهره، وله حال ومقام، وله أقسام، وأنا أتكلم لك الآن في ذلك بحسب الوارد ترجمة عن الإلقاء الرحماني". فالنابلسي عندما قرر في (ص133 من كتابه الفتح الرباني) أن علوم الشريعة لا تنجي وحدها من عذاب الآخرة، بل لا بد أن يدخل المتعلم إلى الحقائق والعلوم الباطنية التي ذكرت في الشريعة بالرمز فقط، ولم ينص عليها نصًا؛ وذلك لينجو من عذاب الله يوم القيامة، عندما قرر النابلسي كل ذلك فإنما قرره ترجمة عن الإلقاء الرحماني في زعمه، ولم يقرر ذلك إجتهادًا ورأيًا!! ولعلك أخي القارئ تحب أن تقف على نماذج من هذا الإلقاء الرحماني على الشيخ عبدالغني النابلسي، لتعلم الحقيقة الباطنة التي أرادها الله، وأرادها رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في زعم القوم ـ والتي تكلم الله ورسوله عنها بطريق الرمز في زعمهم، والتي فهمها وعقلها، بل نزل الفيض الرحماني والفتح الرباني بها على الشيخ عبدالغني النابلسي!! يقول الشيخ في بيان حقيقة الذنب: "وأما الذنب بحسب باطن الأمر الإلهي المسمى الحقيقة فهو: الموافقة للرب سبحانه وتعالى في شيء مما أراد بنفسه من نفسه بعد وصول التبليغ عن نفسه بنفسه إلى نفسه، ويرجع ذلك إلى تعيين وجود العبد" ا.هـ. (ونفسه) هذه التي تكررت في العبارة خمس مرات هي مضمون وحدة الوجود، فالله نفسه هو المريد، وما أراد شيئًا بغيره، وإنما أراد بنفسه، والمبلّغ عنه هو الرسول، وهو الله نفسه في زعمهم، والمبلغ إليهم هم البشر، وهم الله نفسه أيضًا ـ في زعمهم ـ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وحتى لا يظن القارئ أن تفسيري هذا تجن على الرجل أنقل نص عبارة الشيخ النابلسي في تفسيره للفقرة السابقة. يقول: "ما ثم إلا ذات وصفات، وصفات صفات، وهي الأفعال، ومنفعلات وهي العالم فالأول هو المعبود، والثاني الموصل إليه وهو الوساطة، والثالث هو العابد، والرابع هو العائق والمانع، والأول مرتبة الله تعالى، والثاني مرتبة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والثالث مرتبة المؤمنين، والرابع مرتبة الشيطان، وهذه الأربعة في الحقيقة شيء واحد، لكنه تنزل وتفصل، فظهرت له هذه الأطوار وتعددت وجوداته" (الفتح ص51). فهذا شرح واضح لوحدة الوجود التي ينقلها الشيخ عبدالغني النابلسي عن شيخه الأكبر ابن عربي، فليس في الوجود عندهم إلا الله، وهذه الموجودات المشاهدة جميعها صفاته، تعددت وتنوعت لتعرب عن الصفات الكثيرة التي يتصف بها الرب في زعمهم، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وهو حسبنا ونعم الوكيل. فالمعبود والرسول والمؤمنون والشياطين كلهم بنص النابلسي شيء واحد، ولذلك فالذنب عند النابلسي هو "الموافقة للرب سبحانه" وهذا راجع بنص كلامه إلى "تعين وجود العبد". ويشرح النابلسي "تعين الوجود" هذا بقوله: فمن تعين عنده وجوده مع الله تعالى ظاهرًا أو باطنًا فقد أفحش، وبغى وقال ما لم يعلم (كذا!!) وذلك لأن التعينات في الوجود الحادث إنما هي لبيان امتياز المحضرات الصفاتية، لتنفصل مجملاتها، وتبين كمالاتها، وليست المغايرة أمرًا مقصورًا، وإنما لزمت من ظهور حقائق بعض الصفات كالغفور والحليم والمنتقم بوساطة تحقق الذنب. قال الجنيد: ما انتفعت بشيء كانتفاعي بأبيات سمعتها، وأنا مار ببعض الطرقات منها: وإن قلت: ما ذنبي إليـــك؟ ** أجبتني: وجودك ذنب لا يقاس به ذنب (الفتح ص49) فالذنب عند النابلسي بمقتضى كلامه السابق هو أن يظن العبد أن له وجودًا مستقلًا عن وجود الله!! ومن ظن ذلك فقد أفحش وبغى، وقال ما لم يعلم، واستدل على ذلك ببيت الشعر الذي سمعه الجنيد. ويبالغ النابلسي أكثر من ذلك، فيزعم أن حال الذنب هو القرب من الله، وليس البعد منه. ولذلك يقول بالنص: "فالمذنب في حال ذنبه أقرب إلى الله منه في حال طاعته"!! وقد أوضح النابلسي هذه العقيدة الباطنية أكثر من ذلك عندما عقد فصلًا مطولًا قارن فيه بين الزنديق والصديق، وكانت خلاصة هذا الفصل أن الزنديق من يرى أن كفره وفسقه صادر منه فقط، وأنه مستقل بهذا الكفر. وأما الصديق فهو من يرى أن كل أفعال العباد صادرة من الله سبحانه ـتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًاـ وأن المؤمن والكافر والفاسق والبار ما هم جميعًا إلا مظاهر مختلفة لحقيقة الرب الموجود وحده، واستدل على ذلك بقوله تعالى: ويحسن أن أنقل كلامه في هذه المسألة بنصه حتى تتضح صورة هذه العقيدة الباطنية وضوحًا لا شك فيه. يقول الشيخ النابلسي: "واعلم أن الأديان كلها التي في العالم بالنسبة إلى المتدينين بها من الخلق تنقسم إلى قسمين: دين واحد حق وهو الإسلام، وأديان جميعها باطلة، وهي ما عدا دين الإسلام. وأما بالنسبة إلى الخالق سبحانه وتعالى فجميع الأديان الباطلة والصحيحة مخلوقة له تعالى، وهو خالقها، وقد قال تعالى: فمن نظر إلى ما يظهر من كلا الفريقين، وقال: إن جميع ذلك صواب وحق فهو الزنديق، ومن لم ينظر إلى ما يظهر من كلا الفريقين، وإنما نظر إلى يد الله العليا التي فوق أيديهم جميعًا، واعتقد أن جميع ما يصدر منها صواب وحق فهو الصديق، والفرق بينهما دقيق. لا يدرك إلا بعناية من الله تعالى وتوفيقه. فربما يظهر الصديق في حلية الزنديق، وربما يظهر الزنديق في حلية الصديق، وموقع النظر واحد، وهو الخلق. فمن نظر إلى الخلق وقال: إنهم كلهم على الصواب: فإما أن ينظر إليهم من حيث صدورهم عن الصانع القديم، ويقول ذلك فهو الصديق. وإما أن ينظر إليهم من حيث ذواتهم ويقول ذلك فهو الزنديق. وسبب ذلك أن من نظر إليهم من حيث صدورهم عن الصانع القديم، فحكم بالتساوي بينهم، لأن الله تعالى يقول: وأما من نظر إليهم من حيث ذواتهم، وما هم عليه من الأحوال، فحكمه بالتساوي بينهم خطأ محض وجهل. قال تعالى: عقد البرية في الإله عقائدًا ** وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه ومراده جميع ما اعتقدوه من حيث صدور ذلك عن الصانع القديم، فإن جميع ذلك آثار دالة عليه تعالى، لا من حيث صدور ذلك عن المعتقدين لأنها من حيث هم دالة عليهم لا عليه، وعقيدة أهل الاختصاص فيها الغفلة عن الآثار، والنظر إلى المؤثر، يعلم ذلك في مواضع شتى في كلامه" (الفتح ص85ـ86). وبهذا النقل المطول عن الشيخ النابلسي تتضح أمامنا الآن صورة العقيدة الباطنية التي سعى القوم إلى غرسها وبنائها، وأنها التحقق ـ في زعمهم ـ من أن الموجودات ما هي إلا مظاهر لحقيقة واحدة هي الله، وأن الأفعال لا تتفاضل ولا تتناقض إلا بالنظر إلى الخلق، وأما بالنظر إلى الله الفاعل الحقيقي ـ في زعمهم ـ فإنما هي شيء واحد يدل على ذات واحدة. وبهذه العقيدة هدموا جميع الأديان، وأبطلوا جميع الشرائع واستحلوا كل المحرمات، وهذا الذي أقرره هنا لا أقرره أيضًا استنباطًا واجتهادًا، وتحميلًا لألفاظ القوم ما لا تحتمل، فقد مر بك بيت
|